سورة يس - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يس)


        


وقوله تعالى: {هذه جَهَنَّمُ التى كُنتُمْ تُوعَدُونَ} استئنافٌ يخاطَبون به بعد تمامِ التَّوبيخِ والتَّقريعِ والإلزامِ والتَّبكيتِ عند إشرافهم على شفير جهنَّمَ أي كنتم تُوعدونها على ألسنةِ الرُّسلِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ بمقابلة عبادة الشَّيطانِ مثل قولِه تعالى: {لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ منهم أَجْمَعِينَ} وقوله تعالى: {قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاء مَّوفُورًا} وقولِه تعالى: {قَالَ اخرج مِنْهَا مَذْءومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ} وغيرِ ذلك مَّما لا يُحصى. وقوله تعالى: {اصلوها اليوم بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أمر تنكيل وإهانة كقولِه تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز} إلخ أي ادخلُوها من فوق وقاسُوا فنون عذابِها اليَّومَ بكفرِكم المستمرِّ في الدُّنيا. وقوله تعالى {اليوم نَخْتِمُ على أفواههم} أي ختماً يمنعُها عن الكلامِ. التفاتٌ إلى الغَيبةِ للإيذانِ بأنَّ ذكر أحوالِهم القبيحةِ استدعى أنْ يُعرض عنهم ويَحكي أحوالَهم الفظيعة لغيرهم مع ما فيه من الإيماءِ إلى أنَّ ذلك من مقتضيات الختم لأنَّ الخطاب لتلقِّي الجواب، وقد انفقطع بالكُلَّيةِ، وقرئ: {تَختم}. {وَتُكَلّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} يُروى أنَّهم يجحدون ويُخاصمون فيشهد عليهم جيرانُهم وأهاليهم وعشائرُهم فيحلفون ما كانُوا مشركين فحينئذٍ يُختم على أفواهِهم وتكلم أيديهم وأرجلُهم. وفي الحديث: «يقول العبدُ يوم القيامة إنِّي لا أجيزُ عليَّ شاهداً إلا من نفسي فيُختم على فيهِ ويقال لأركانِه انطقي فتنطقُ بأعماله ثم يُخلَّى بينه وبين الكلام فيقول بُعداً لكنَّ وسُحقاً فعنكنَّ كنتُ أناضلُ» وقيل: تكليمُ الأركانِ وشهادتُها على أفعالها وظهورُ آثارِ المعاصي عليها. وقرئ: {وتتكلَّمُ أيديهم} وقرئ: {ولتكلَّمَنا أيديهم} وتشهد بلام كَيْ والنَّصبِ على معنى ولذلك نختِم على أفواهِهم وقرئ: {ولتكلِّمْنا أيديهم} لتشهدْ بلام الأمرِ والجزمِ {وَلَوْ نَشَاء لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ} الطَّمسُ تعفيةُ شقِّ العينِ حتَّى تعودَ ممسوحةً. ومفعول المشيئة محذوفٌ على القاعدة المستمرَّةِ التي هي وقوعها شرطاً وكون مفعولها مضمون الجزاء أي لو نشاء أنْ نطمسَ على أعينهم لفعلناه. وإيثارُ صيغة الاستقبال وإن كان المعنى على المُضيِّ لإفادة أنَّ عدمَ الطَّمس على أعينهم لاستمرار عدمِ المشيئة، فإنَّ المضارعَ المنفيَّ الواقع موقع الماضي ليس بنصَ في إفادة انتفاء استمرارِ انتقائه بحسب المقام كما مرَّ في قوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير} {فاستبقوا الصراط} أي فأرادوا أنْ يستبقُوا إلى الطَّريقِ الذي اعتادُوا سلوكَه. على أنَّ انتصابه بنزع الجارِّ أو هو بتضمين الاستباقِ معنى الابتدارِ أو بالظَّرفيةِ {فأنى يُبْصِرُونَ} الطَّريقَ وجهة السلوك.


{وَلَوْ نَشَاء لمسخناهم} بتغيير صُورِهم وإبطال قواهم {على مكانتهم} أي مكانِهم إلاَّ أن المكانة أخصُّ كالمَقامةِ والمَقامِ. وقرئ: {على مكانتهم} أي لمسخناهم مسخاً يُجمِّدهم مكانَهم لا يقدرون أنْ يبرحُوه بإقبالٍ ولا إدبارٍ ولا رجوعٍ وذلك قوله تعالى {فَمَا استطاعوا مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ} أي ولا رجوعاً فوُضعَ موضعَه الفعلُ لمراعاةِ الفاصلةِ عن ابن عبَّاسَ رضي الله عنهما قردةً وخنازيرَ، وقيل: حجارةً وعن قَتادةَ لأقعدناهم على أرجلِهم وأزمنَّاهم. وقرئ: {مِضيّا} بكسر الميمِ وفتحها. وليسَ مساقُ الشَّرطيتينِ لمجرد بيان قدرته تعالى على ما ذُكر من عقوبة الطَّمسِ والمسخ بل لبيان أنَّهم بما هم عليه من الكُفر ونقص العهد وعدم الاتِّعاظِ بما شاهدُوا من آثارِ دمارِ أمثالِهم أحقَّاءُ بأنْ يُفعلَ بهم في الدُّنيا تلك العقوبة كما فُعل بهم في الآخرةِ عقوبةُ الختمِ وأنَّ المانع من ذلك ليس إلاَّ عدمُ تعلُّقَ المشيئة الإلهيَّةِ كأنَّه قيل: لو نشاء عقوبتَهم بما ذُكر من الطَّمسِ والمسخ جرياً على موجب جناياتهم المستدعيةِ لها لفعلناها ولكنَّا لم نشأها جرياً على سَننِ الرَّحمةِ والحكمة الدَّاعيتينِ إلى إمهالهم {وَمَن نّعَمّرْهُ} أي نُطل عمره {نُنَكّسْهُ فِى الخلق} أي نقلبْه فيه ونخلقْه على عكسِ ما خلقناه أوَّلاً، فلا يزال يتزايدُ ضعفُه وتتناقصُ قوَّتُه وتُنتقص بنيتُه ويتغير شكلُه وصورتُه حتَّى يعودَ إلى حالةٍ شبيهةٍ بحال الصبيِّ في ضعف الجسدِ وقلَّةِ العقلِ والخلوِّ عن الفهمِ والإدراكِ. وقرئ: {نَنكُسْه} من الثُّلاثيِّ المجرَّدِ و{نُنْكِسه} من الإنكاسِ. {أَفَلاَ يَعْقِلُونَ} أي أيرَون ذلك فلا يعقلون أنَّ مَن قَدَر على ذلك يقدِرُ على ما ذُكر من الطَّمسِ والمسخِ وأنَّ عدم إيقاعِهما لعدم تعلُّقِ مشيئته تعالى بهما. وقرئ: {تعقلون} بالتَّاءِ لجري الخطابِ قبلَه.
{وَمَا علمناه الشعر} ردٌّ وإبطالٌ لما كانُوا يقولونَه في حقِّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من أنَّه شاعرٌ وما يقولُه شعرٌ أي ما علَّمناه الشِّعرُ بتعليمِ القُرآن على أنَّ القُرآنَ ليسَ بشعرٍ فإنَّ الشِّعرَ كلامٌ متكلَّفٌ موضوعٌ ومقالٌ مزخرَفٌ مصنوعٌ منسوجٌ على منوالِ الوزن والقافيةَ مبنيٌّ على خيالاتٍ وأوهامٍ واهيةٍ فأين ذلك من التَّنزيلِ الجليلِ الخطِرِ المنزَّهِ عن مماثلةِ كلامِ البشر المشحون بفُنونِ الحِكَمِ والأحكامِ الباهرةِ الموصِّلةِ إلى سعادةِ الدُّنيا والآخرةِ، ومن أين اشتَبه عليهم الشؤون واختلطَ بهم الظُّنون قاتلهم الله أنَّى يُؤفكون {وَمَا يَنبَغِى لَهُ} وما يصحُّ له الشِّعرُ ولا يتأتَّى له لو طلبه أي جعلناه بحيث لو أراد قرضَ الشِّعِر لم يتأتَّ له كما جعلناه أميَّاً لا يهتدي للخطِّ لتكون الحجَّةُ أثبتَ والشُّبهةُ أدحضَ. وأما قولُه عليه الصَّلاة والسَّلام: «أنا النبيُّ لا كذب أنا ابنُ عبد المطَّلب» وقولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «هل أنتِ إلا أصبعٌ دميتِ وفي سبيل الله ما لقيتِ» فمنْ قبيلِ الاتفِّاقاتِ الواردةِ من غير قصدٍ إليها وعزمٍ على ترتيبها. وقيل: الضَّميرُ في له للقُرآنِ أي وما ينبغي للقُرآنِ أنْ يكونَ شِعراً {إِنْ هُوَ} أي ما للقُرآن {إِلاَّ ذِكْرٌ} أي عظةٌ من الله عزَّ وجلَّ وإرشادٌ للثَّقلين كما قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين} {وَقُرْآنٌ مُّبِين} أي كتابٌ سماويٌّ بيِّنٌ كونه كذلك أو فارقٌ بين الحقِّ والباطلِ يُقرأ في المحاريبِ ويُتلى في المعابدِ ويُنال بتلاوتِه والعملِ بما فيه فوزُ الدَّارينِ فكم بينَهُ وبينَ ما قالُوا.


{لّيُنذِرَ} أي القُرآنُ أو الرَّسولُ عليه الصلاة والسلام ويُؤيِّده القراءةُ بالتَّاءِ، وقرئ: {لينذر} من نذر به أي علمه، و{ليُنذَرَ} مبنيَّا للمفعولِ من الإنذارِ. {مَن كَانَ حَيّاً} أي عاقِلاً متأمِّلاً، فإنَّ الغافلَ بمنزلةِ الميِّتِ، أو مؤمناً في علمِ الله تعالى فإن الحياةَ الأبديَّةَ بالإيمانِ، وتخصيصُ الإنذار به لأنَّه المنتفعُ به {وَيَحِقَّ القول} أي تجبُ كلمةُ العذابِ {عَلَى الكافرين} المصرِّين على الكفرِ، وفي إيرادِهم بمقابلةِ مَن كان حيّاً إشعارٌ بأنَّهم لخلوِّهم عن آثارِ الحياةِ وأحكامِها التي هي المعرفةُ أمواتٌ في الحقيقةِ.
{أَوَلَمْ يَرَوْاْ} الهمزةُ للإنكار والتَّعجيبِ. والواو للعطفِ على جملةٍ منفيِّةٍ مقدَّرةٍ مستتبعةٍ للمعطوفِ أي ألم يتفكرَّوا أو ألم يلاحظُوا ولم يعلمُوا علماً يقينيّاً مُتاخِماً للمُعاينةِ. {أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم} أي لأجلِهم وانتفاعِهم {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} أي ممَّا تولينا إحداثَه بالذَّاتِ. وذكرُ الأيدي وإسنادُ العمل إليها إستعارةٌ تفيد مبالغة في الاختصاص والتَّفردِ بالأحداث والاعتناء به. {أنعاما} مفعولُ خلقنَا. وتأخيره عن الجارَّينِ المتعلِّقين به مع أنَّ حقَّه التَّقدمُ عليهما لما مرَّ مراراً من الاعتناء بالمقدَّمِ والتَّشويقِ إلى المؤخَّرِ فإنَّ ما حقُّه التَّقدِيمُ إذا أُخِّر تبقى النَّفسُ مترقبةَ له فيتمكن عند ورودِه عليها فضلُ تمكُّنٍ لا سيَّما عند كونِ المقدَّصصمِ منبئاً عن كونِ المؤخَّر أمراً نافعاً خطيراً كما في النَّظمِ الكريم فإنَّ الجارَّ الأول المُعربَ عن كون المؤخَّرِ من منافعهم، والثَّاني المفصح عن كونه من الأمورِ الخطيرةِ يزيدان النَّفسَ شوقاً إليه ورغبةً فيه ولأنَّ في تأخيره جمعاً بينه وبين أحكامِه المتفرِّعةِ عليه يقوله تعالى {فَهُمْ لَهَا مالكون} الآياتِ الثلاثَ أي مَلّكناها إيَّاهمُ. وإيثارُ الجملة الاسميَّةِ على ذلك للدِّلالةِ على استقرارِ مالكِّيتِهم لها واستمرارِها. والَّلامُ متعلِّقةٌ بمالكون مقوَّيةٌ لعمله أي فهُم مالِكون لها بتمليكِنا إيصِّاهم لهم متصرِّفون فيها بالاستقلالِ مختصُّون بالانتفاع بها لا يُزاحمهم في ذلك عيرُهم أو قادرون على ضبطها متمكِّنون من التَّصرُّفِ فيها بأقدارِنا وتمكيننا وتسخيرِنا إيَّاها لهم كما في قولِ مَن قال:
أصبحتُ لا أحملُ السِّلاحَ ولا *** أملكُ رأسَ البعيرِ إنْ نَقَرا
والأَوَّلُ هو الأظهرُ ليكون قوله تعالى {وذللناها لَهُمْ} تأسيساً لنعمةٍ على حيالِها لا تتمَّةً لما قبلها أي صيَّرناها منقادةً لهم بحيثُ لا تستعصِي عليهم في شيءٍ مَّما يُريدون بها حتَّى الذَّبح حسبما ينطقُ به قوله تعالى {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} إلخ فإنَّ الفاء فيه لتفريع أحكام التَّذليلِ عليه وتفصيلها أي فبعضٌ منها ركوبُهم أي مركوبُهم أي معظم منافعها الرُّكوبُ، وعدم التَّعرضِ للحمل لكونِه من تتمَّاتِ الرُّكوبِ. وقرئ: {ركوبتُهم} وهي بمعناه كالحَلوبِ والحَلوبةِ وقيل: الرَّكوبةُ اسم جمع. وقرئ: {رُكوبُهم} أي ذُو رُكوبِهم {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} أي وبعضٌ منها يأكلون لحمه.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9